أظن أن الضجة الإعلامية التي أحدثها مصرع الطالبة “يارا” في الجامعة الألمانية منذ عدة أسابيع قد هدأت كثيرًا، وكان هذا متوقعـًا؛ لكثرة الملفات المفتوحة في مصر، التي يـُثار منها عدد جديد كل يوم، كما خفتت الضجة دون إحراز نتائج ملموسة أو الوصول إلى حل جذري، وكان ذاك متوقعـًا أيضـًا؛ نظرًا لأنك تتكلم عن حادثة وقعت في مصر، فهل تتوقع محاسبة فعلية أو حلاً جذريًّا!؟ إذًن، فقد هدأت الضجة وهذا ما كنتُ أنتظره حتى أتحدث قليلًا، ليس عما حدث بالضبط لـ”يارا” ولكن للإجابة عن سؤال دار في أذهان كثيرين “كيف يحدث هذا في الجامعة الألمانية؟!”
تنبع حيرة الكثيرين من الحادثة من الاسم “الجامعة الألمانية” لا من الحادثة نفسها؛ فالمصريون معتادون على أخبار الكوارث الخاصة بالمواصلات، ولا يمكن أن يمر يوم دون أن تقرأ جريدة أو تشاهد نشرة أخبارٍ إلا وتجد حادثة طريق راح مصرعها عدد من الأشخاص، ولكن كثيرين توقفوا عند اسم الجامعة هنا، وكأننا نتحدث عن دولة أخرى، كما تناولت الأخبار الإعلامية صمت الجامعة المريب عن الحادث ومراوغة الأطباء في دهشة، وكأننا ننتظر أن تخرج علينا إدارة الجامعة باعتذار رسمي مثلاً وتكريم الطالبة بإطلاق اسمها على أحد المدرجات في الجامعة!
مرحبـًا يا إعلام! نحن في مصر وهذه جامعة في أرض مصرية، ماذا تتوقعون؟! أنتم تتحدثون هنا عن سائق حافلة مصري وعن إدارة مصرية، هل تتوقع مثلاً أن الجامعة الألمانية هي جزء من ألمانيا؟!
إن تصرف الجامعة تصرف مصري أصيل يليق بمكانة النظام المصري العتيق في إدارة الكوارث والأزمات، الصمت والكتمان ثم الإنكار الشديد ثم “تلبيس” التهمة لأصغر عامل في المنظومة ومحاسبته وهكذا تنتهي القضية!!
ثم ماذا نتوقع من سائق الحافلة المصري الذي يعمل في الجامعة الألمانية؟!هل نتوقعه حاصلاً على الدكتوراه مثلاً أم أنه شخص منتبه وبارع في قيادته؟! إنه مصري يحمل جينات الإهمال، الجينات التي لا تـُفرق بين طبيب ينسى “الفوطة” في أحشاء المريض وسائق قطار يتسبب بتهوره في مقتل المئات أو سائق حافلة في جامعة خاصة!
أتذكر الحادثة التي حصلت منذ أعوام في جامعة المنصورة، الطالبة “جهاد” التي تم قتلها على مرأى ومسمع الجميع في الجامعة على يد أستاذة جامعية لا تُجيد القيادة، يومها ثارت الجامعة على رئيسها الذي تكتم على الوضع وتصرف تصرفـًا سلبيـًا خائبـًا لا يليق بمكانة الجامعة ولا بفظاعة الحادثة، رئيس الجامعة الذي كوفئ على تستره على الجريمة الشنعاء بأن صار وزيرًا للتعليم العالي ونـُسيت الصغيرة التي قتلها الإهمال مرة أخرى.
إذًن، لا فارق بين حادثة “جهاد” و”يارا” سوى في المكان، لا فارق بين جامعة حكومية وجامعة خاصة في مصر، لو كنت أجنبيـة عن هذه الدولة ومسئولة في الجامعة الألمانية وحضرت مأساة “جهاد” وطُلب مني التصريح بشيء ما، لأخبرتهم أن يذهبوا ويحققوا في مسألة “جهاد” أولاً قبل أن يحاسبونني، فهذه دولة لا تـُلقي بالًا بأرواح مواطنيها، فـلِمَ عليّ أن أهتم أنا؟!
نستنتج أن الإهمال جين متأصل في الشعب المصري، لا يـُفرق بين أحد من مواطني هذه الدولة، ما دمتَ مصريًّا وتعيش على أرض هذا الوطن ستظل مـُعرضـًا للإهمال الذي قد يقتلك في أية لحظة بدون محاسبة جدّية.
مثال آخر على الإهمال الذي وصل إلى القمة، منذ عدة أسابيع كان هناك افتتاح لبعض الكباري على مستوى الجمهورية عن طريق “الفيديو كونفرنس” مع السيسي وتم افتتاح كوبري “طلخا” يومها رغم أن مـَن يعيش في المنصورة يعرف أن الكوبري لم ينته العمل فيه بعد، ولا تدري من لفت انتباه السيسي لهذه النقطة، لنجده في افتتاح كوبري آخر بعدها يسأل الرجل عما إذا كان الكوبري قد تم الانتهاء منه فعلاً أم ما يزال تحت الإنشاء واتضح أن الكوبري ذاك أيضـًا ما يزال تحت الإنشاء!
فلسفة الإهمال التي تصل إلى حد الوقاحة في التعامل أصبحت شيئـًا رسميـًا في حياة المصريين، وكأننا لا نستطيع العيش بدونها والنظام الحالي يتصور أن مجرد انتخابه يعني أن شيئـًا جديدًا قد طرأ على حياة المصريين وأن نية التغيير ستعمل آليـًا، يذكرني بموقف الفتاة الحالمة- ودعونا هنا نستخدم كلمة الحالمة – التي تحلم بأن تجعل حبيبها يكف عن إدمان المخدرات أو لعب القمار بعد الزواج بحجة أنه سيتغير لأنه يحبها، هذا موقف ساذج من فتاة ساذجة، وكذلك موقف النظام الذي يتصور أن المصريين سيتغيرون فقط لأنهم يحبونه ولأنهم اختاروه.
أيها السادة، النيات الحسنة لا تصنع نهضة وفي مصر، خلف كل مهمل يموت يولد مهمل جديد.